سورة الزمر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


ولما ثبت أن القانت خير، وكان المخالف له كثيراً، وكان أعظم حامل له على القنوت التقوى، وكانت كثرة المخالف أعظم مزلزل، وكان الإنسان- لما له من النقصان- أحوج شيء إلى التثبيت، وكان التثبيت من المجانس، والتأنيس من المشاكل أسكن للقلب وأشرح للصدر، أمر أكمل الخلق وأحسنهم ملاطفة بتثبيتهم فقال: {قل} ولما كان الثبات لا يرسخ مع كثرة المخالف، وتوالي الزلزال والمتالف، إلا إذ كان عن الملك، جعل ذلك عنه سبحانه ليجتمع عليه الخالق والأقرب إليه من الخلائق، فقال: {يا عباد} دون أن يقول: يا عباد الله، مثلاً تذكيراً لهم تسكيناً لقلوبهم بما علم من أن التقدير. قال الله، وتشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية، وإعلاماً لهم بأنه حاضر لا يغيب عنهم بوجه: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى حالاتها.
ولما كان الإحسان ربما جراً على المحسن، أشار سبحانه إلى سداد قول العارفين: اجلس على البساط وإياك والانبساط ونبه بلفت القول عن مظهر التكلم إلى الوصف بما يدل على أن العاقل من أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً، وأثمر له العطف والتقريب ذلاًّ في نفسه وصغاراً، وخوفاً وانكساراً، مما أقله قطع الإحسان فقال: {اتقوا ربكم} أي اجعلوا بينكم وبين غضب المحسن إليكم وقاية بأن تترقوا في درجات طاعته مخلصين له كما خلقكم لكم لا لغرض له ليرسخ إيمانكم ويقوي إحسانكم، وهذا أدل دليل على أن الإيمان يكون مع عدم التقوى.
ولما أرشدهم بالاسم الناظر إلى الإحسان إلى أن يقولوا: فما لنا إن فعلنا؟ قال مجيباً معللاً: {للذين أحسنوا} أي لكم، ولكنه أظهر الوصف الدال على سبب جزائهم تشويقاً إلى الازدياد منه، ولما كان العمل لا ينفع إلا في دار التكليف قال: {في هذه} باسم الإشارة زيادة في التعيين {الدنيا} أي الدنية الوضرة التي لا تطهر الحياة فيها إلا بالتقديس بعبادة الخالق والتخلق بأوصافه {حسنة} أي عظيمة في الدنيا بالنصر والمعونة مع كثرة المخالف وفي الآخرة بالثواب، ويجوز أن يكون معنى {أحسنوا} أوقعوا الإحسان، ومعلوم أنه في هذه الدنيا، فيكون ما بعده مبتدأ وخبراً، لكنه يصير خاصاً بثواب الدنيا، فالأول حسن.
ولما كان ربما عرض للإنسان في أرض من يمنعه الإحسان، ويحمله على العصيان، حث سبحانه على الهجرة إلى حيث يزول عنه ذلك المانع، تنبيهاً على أن مثل هذا ليس عذراً في التقصير كما قيل:
وإذا نبا بك منزل فتحول ***
فقال: {وأرض الله} أي الذي له الملك كله والعظمة الشاملة {واسعة} ووجوده بعلمه وقدرته في كل أرض على حد سواء، فالمتقيد بمكان منها ضعيف العزم واهن اليقين، فلا عذر للمفرط في الإحسان بعدم الهجرة.
ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولا سيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال: {إنما يوفى} أي التوفية العظمية {الصابرون} أي على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى واتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها {أجرهم بغير حساب} أي على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، وكل عمل يمكن عده وحصره إلا الصبر فإنه دائم مع الأنفاس، وهو معنى من المعاني الباطنة لا يطلع خلق على مقداره في قوته وضعفه وشدته ولينه لأنه مع خفائه يتفاوت مقداره، وتتعاظم آثاره، بحسب الهمم في علوها وسفولها، وسموها ونزولها، ويجوز أن يكون المعنى أن من كمل صبره بما أشارت إليه لام الكمال- لم يكن عليه حساب، لما رواه البزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي، قال: «إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك»، قالت: بل أصبر ولا حساب علي.
ولما كانت الأعين ناظرة إلى الأمر هل يفعل ما يأمر به ومقيده بالرئيس لتأتسي به، وكان أعظم الصابرين من جاهد نفسه حتى خلص أعمالها من الشوائب وحماها من الحظوظ والعوائق، وصانها من الفتور والشواغل، أمره بما يرغبهم في المجاهدة، ويكشف لهم عن حلاوة الصبر، بقوله: {قل} ولما كان الرئيس لقربه من الملك بحيث يظن أنه يسامحه في كثير مما يكلف به غيره أكد قوله: {إني أمرت} وبني الفعل لما لم يسم فاعله تعظيماً للأمر بأنه قطع ومضى بحيث لم يبق فيه مشوبة، وأقام مقام الفاعل دليلاً على أنه العمدة للحث على لزومه قوله: {أن أعبد الله} أي الذي الخلق كلهم سواء بالنسبة إلى قبضته وعلوه وعظمته لأنه غني عن كل شيء {مخلصاً له الدين} أي العبادة التي يرجى منه الجزاء عليها.
ولما كان الرئيس إذا سابق إلى شيء شوق النفوس إليه، وأوجب عليها العكوف عليه قال: {وأمرت} أي، وقع الأمر لي وانبرم بأوامر عظيمة وراء ما أمرتم به لا تطيقونها {لأن} أي لأجل أن {أكون} في وقتي وفي شرعي {أول} أي أعظم {المسلمين} أي المنقادين في الرتبة الحائزين قصب السبق بكل اعتبار لأوامر الإله الذي لا فوز إلا بامتثال أوامره أو أسبق الكائنين منهم في زماني، فجهة هذا الفعل غير جهة الأول، فلذلك عطف عليه لأنه لإحراز قصب السبق، والأول لمطلق الإخلاص في العبادة.
ولما كان ما أمر به مفهماً لأن يكون مع ترغيب ومع ترهيب، وكان ربما ظن أن الرئيس لا يرهب الملك لأمور ترجى منه أو تخشى، وكان تكرير الأمر بإبلاغ المأمورين أوقع في قلوبهم وأشد إقبالاً بنفوسهم قال تعالى: {قل} أي لأمتك، وأكد- لما في الأوهام أن الرئيس لا يخاف- قوله: {إني أخاف} أي مع تأمينه لي بغفران ما تقدم وما تأخر إخلاصاً في إجلاله وإعظامه وفعلاً لما على العبد لمولاه الذي له جميع الكبرياء والعظمة، ولما كان وصف الإحسان ربما جراً على العصيان، يبن أنه لا يكون ذلك إلا لعدم العرفان فقال: {إن عصيت ربي} أي المحسن إليّ المربي لي بكل جميل فتركت الإخلاص له {عذاب يوم عظيم} وإذا كان اليوم عظيماً، فكيف يكون عذابه.


ولما بين ما أمر به، وأعلم أنه يخاف من مخالفة الأمر له بذلك فأفهم أنه ممتثل لما أمر به، أمره سبحانه بأن يصرح بذلك لأن التصريح من المزية ما لا يخفى فقال: {قل الله} أي المحيط بصفات الكمال وحده {أعبد} تخصيصاً له بذلك، لا أنحو أصلاً بالعبادة نحو غيره أبداً {مخلصاً له} وحده {ديني} أي امتثالاً لما أمرت به فلا أشينه بشائبة أصلاً لا طلباً لجنّة ولا خوفاً من نار فإنه قد غفر لي ما تقدم وما تأخر، فصارت عبادتي لآجل وجهه وكونه مستحقاً للعبادة خاصة شوقاً إليه وحباً له وحياء منه وأما الرغبة فيما عنده سبحانه والخوف من سطواته التي جماعها قطع الإحسان الذي هو عند الأغبياء أدنى ما يخاف فإنما خوفي لأجل إعطاء المقام حقه من ذل العبودية وعز الربوبية.
ولما علم من هذا غاية الامتثال بغاية الرغبة والرهبة وهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أقواهم قلباً وأصفاهم لباً، وأجرأهم نفساً وأصدقهم وأشجعهم عشيرة وحزباً، كان خوف غيره من باب الأولى، فسبب عنهد تهديدهم أعظم تهديد بقوله: {فاعبدوا} أي أنتم أيها الداعون له في وقت الضراء المعرضون عنه في وقت الرخاء {ما شئتم} أي من جماد أو غيره. ونبّه على سفول رتبة كل شيء بالنسبة إليه سبحانه تسفيهاً لمن يلتفت إلى سواه بقوله: {من دونه} فإن عبادة ما دونه تؤدي إلى قطع إحسانه، ولا إحسان إلا إحسانه، فإذا انقطع حصل كل سوء، وفي ذلك جميع الخسارة.
ولما كانوا يدعون الذكاء، ويفعلون ما لا يفعله عاقل، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على غباوتهم بما يصيرون إليه من شقاوتهم فقال: {قل إن الخاسرين} أي الذين خسارتهم هي الخسارة لكونها النهاية في العطب {الذين خسروا أنفسهم} أي بدخولهم النار التي هي معدن الهلاك لعبادتهم غير الله من كل ما يوجب الطغيان. ولما كان أعز ما على الإنسان بعد نفسه أهله الذين عزه بهم قال: {وأهليهم} أي لأنهم إن كانوا مثلهم فحالهم في الخسارة كحالهم، ولا يمكن أحداً منهم أن يواسي صاحبه بوجه فإنه لكل منهم شأن يغنيه، وإن كانوا ناجين فلا اجتماع بينهم.
ولما كانت العاقبة هي المقصودة بالذات، قال: {يوم القيامة} لأن ذلك اليوم هو الفيصل لا يمكن لما فات فيه تدارك أصلاً ولما كان في ذلك غاية الهول. كرر التعريف بغباوتهم تنبيهاً على رسخوهم في ذلك الوصف على طريق النتيجة لما أفهمه ما قبله فقال منادياً لأنه أهول مبالغاً بالاستئناف وحرف التنبيه وضمير الفصل وتعريف الخبر ووصفه: {ألا ذلك} أي الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة جداً {هو} أي وحده {الخسران} أتى بصيغة الفعلان المفهم مطلقاً للمبالغة فكيف إذا بنيت على الضم الذي هو أثقل الحركات، وزاد في تقريعهم بالغباوة بقوله: {المبين}.
ولما علم بهذا أنه البين في نفسه المنادي بما فيه من القباحة بأنه لا خسران غيره، فصله بقوله على طريق التهكم بهم: {لهم} فإن عادة اللام عند مصاحبة المجرور ولا سيما الضمير إفهام المحبوب للضمير لا سيما مع ذكر الظلل وأشار إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال: {من فوقهم ظلل} ولما أوهمهم ذلك الراحة، أزال ذلك بقوله: {من النار} وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر. ولما كان في القرار- كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب، يصعدهم اللهيب تارة، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار، يغلي به صاعداً وسافلاً، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله: {ومن تحتهم}.
ولما كان كون الظلة المأخوذة من الظل من تحت في غاية الغرابة، أعادها ولم يكتف بالأولى، ولم يعد ذكر النار لفهمها في التحت من باب الأولى فقال: {ظلل} ومما يدل على ما فهمته من عدم القرار ما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا، فسألنا يوماً قلنا: لا، قال: لكني رأيت رجلين أتياني فأخذا بيدي وأخرجاني إلى الأرض المقدسة» فذكره بطوله حتى قال: «فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، توقد تحته نار، فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهيب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا» فذكره وهو طويل عظيم، ثم فسرهم بالزناة.
لما كان هذا أمراً مهولاً، وهو لا يرهبونه ولا يرجعون عن غيّهم به، ذكر فائدته مع الزيادة في تعظيمه فقال: {ذلك} أي الأمر العظيم الشأن {يخوف الله} أي الملك الأعظم الذي صفاته الجبروت والكبر {به عباده} أي الذين لهم أقلية الإقبال عليه ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم فيعيذهم منه. ولما أهلهم للإضافة إليه وخوفهم سطواته، أقبل عليهم عند تهيئتهم للاستماع منبهاً على أنه تخويف استعطاف فقال: {يا عباد فاتقون} أي سببوا عن ذلك أن تجعلوا بينكم وبين ما يسخطني وقاية مما يرضيني لأرضى عنكم.
ولما ذكر ما لمن عبد الطاغوت، عطف عليه أضدادهم ليقترن الوعد بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب فقال: {والذين اجتنبوا} أي كلفوا أنفسهم ذلك لما لها في الانسياق إليه من الهوى مع تزيين الشيطان «حفت النار بالشهوات» ولما كان للإجمال ثم البيان موقع عظيم، قال: {الطاغوت} وهو كل ما عبد من دون الله، فلغوت من الطغيان وهو صيغة مبالغة، وفيه مبالغة أخرى بجعل الذات عين المعنى، ودل على عكس من تبعها بتعكيس حروفها، ولما ذكر اجتنابها مطلقاً ترغيباً فيه، بين خلاصة ما يجتنب لأجله مع التنفير منها بتأنيثها الذي أبصره المنيبون بتقوية الله لهم عليها حتى كانوا ذكراناً وهم إناثاً عكس ما تقدم للكفار في البقرة، فقال مبدلاً منها بدل اشتمال: {أن يعبدوها}.
ولما ذكر اجتناب الشرك، أتبعه التزام التوحيد فقال: {وأنابوا} أي رجعوا رجوعاً عظيماً أزالوا فيه النوبة وجعلوها إقبالة واحدة لا صرف فيها {إلى الله} أي المحيط بصفات الكمال فلا معدل عنه {لهم البشرى} في الدنيا على ألسنة الرسل وعند الموت تتلقاهم الملائكة فقد ربحوا ربحاً لا خسارة معه لأنهم انتفعوا بكلام الله فأخلصوا دينهم له فبشرهم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال مسبباً عن عملهم، صارفاً القول إلى التكلم بالإفراد تشريفاً للمبشرين الموصوفين: {فبشر عباد} أي الذين أهلوا أنفسهم بقصر هممهم عليّ للإضافة إليّ {الذين يستمعون} أي بجميع قلوبهم {القول} أي هذا الجنس من كل قائل ليسوا جفاة عساة إذا أقبلوا على شيء أعرضوا عن غيره بغير دليل {فيتبعون} أي بكل عزائمهم بعد انتقاده: {أحسنه} بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى هوى، ويدخل في هذه الآية دخولاً بيناً حث أهل الكتاب على اتباع هذا القرآن العظيم، فإن كتب الله كلها حسنة، وهذا القرآن أحسنها كلاماً، ومعاني ونظاماً، لا يشك في هذا أحد له أدنى ذوق.
ولما بين عملهم، أنتج ذلك مدحهم فقال مظهراً زيادة المحبة لهم والاهتمام بشأنهم بالتأكيد: {أولئك} أي العالو الهمة والرتبة خاصة {الذين} ولما كان في هؤلاء المجتبين العالو الرتبة جداً وغيره، أبرز المفعول فقال محولاً الأسلوب إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم هدايتهم، {هداهم الله} بما له من صفات الكمال فبين سبحانه أن لا وصول إليه إلا به، وهذا بخلاف آية الأنعام حيث ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال {أولئك الذين هدى الله} فحذف المفعول لتصير هدايتهم مكررة بوجوب تسليط العامل على الموصول الذي أعاد عليه الضمير في هذه الآية، وكرر الإشارة زيادة في تعظيمهم فقال: {وأولئك هم} أي خاصة {أولوا الألباب} أي العقول الصافية عن شوب كدر.
ولما خص سبحانه البشارة بالمحسنين، علم أن غيرهم قد حكم بشقاوته، وكان صلى الله عليه وسلم لما جبل عليه من عظيم الرحمة ومزيد الشفقة جديراً بالأسف على من أعرض، سبب عن أسفه عليهم قوله: {أفمن حق} وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم {عليه كلمة العذاب} بإبائه وتوليه، فكان لذلك منغمساً في النار التي أبرمنا القضاء بأنها جزاء الفجار لا يمكن إنقاذه منها، أفأنت تنقذه من إعراضه الذي غمسه في النار؟ ثم دل على هذا الذي قدرته بقوله مؤكداً بإعادة حرف الاستفهام لأجل طول الكلام ولتهويل الأمر وتفخيمه للنهي عن تعليق الهم بهم لما عنده صلى الله عليه وسلم من جبلة العطف والرقة على عباد الله: {أفأنت تنقذ} أي تخلص وتمنع وتنجي، ووضع موضع ضميره قوله شهادة عليه بما هو مستحقه ولا يمكن غير الله فكه منه {من في النار} متمكناً فيها شديد الانغماس في طبقاتها، والرسوخ بحيث إنها قد أحاطت به من كل جانب، وكان الأصل: أنت تنقذ من حق عليه العذاب، فقدم المفعول وجعله عمدة الكلام ليقرع السمع ويترقب الخبر عنه، ثم حذف خبره ليكون أهول فتذهب النفس فيه كل مذهب، ثم أنكر أن يكون أعلى الخلق ينقذه، فغيره من باب الأولى، فصار الكلام بذلك من الرونق والبهجة والهول والإرهاب ما لا يقدر البشر على مثله.


ولما بين أن من عبد الأنداد هالك لخروجه عن دائرة العقل بجرأة وعدم تدبير، بين ما لأضدادهم، فقال صارفاً القول عن الاسم الأعظم إلى وصف الإحسان إشارة إلى كرم المتقين بما لهم من إصالة الرأي التي أوجبت خوفهم مع تذكر الإحسان ليدل على أن خوفهم عند تذكر الانتقام أولى: {لكن الذين اتقوا ربهم} أي جعلوا بينهم وبين سخط المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكنة، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه {لهم غرف} أي علالي من الجنة يسكنونها في نظير ظلل الكفار. ولما كانت الغرف في قرار تقر به العيون لم يقل من فوقهم كما قال في أهل النار وقال: {من فوقها غرف} أي شديدة العلو. ولما كان ربما ظن أن الطبقة الثانية السماء، لأن الغرفة أصلها العالي، ولذلك سميت السماء السابعة غرفة، وأن تكون الغرفة مثل ظلل النار ليس لها قرار، قال تحقيقاً للحقيقة مفرداً كما هو المطرد في وصف جمع الكثرة لما يعقل: {مبنية}. ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء، وكان الجاري أشرف وأحسن قال: {تجري من تحتها} أي الغرف من الطبقة السفلى والطبقة العليا من غير تفاوت بين العلو والسفل، لأن القدرة صالحة لأكثر من ذلك {الأنهار}.
ولما ذكر يوم القيامة وما يكون فيه، بين أنه أمر لا بد منه بقوله، راداً السياق إلى الاسم الأعظم الذي لا يتصور مع استحضار ما له من الجلال إخلاف: {وعد الله} مؤكداً لمضمون الجملة بصيغة المصدر الدال على الفعل الناصب له، وهو واجب الإضمار والإضافة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات، ثم أتبع ذلك بيان ما يلزم من كونه وعده بقوله على سبيل النتيجة: {لا يخلف الله} أي الملك الذي لا شريك له يمنعه من شيء يريده. ولما كان الرعي لزمان الوعد ومكانه إنما يكون للمحافظة عليه فهو أبلغ من رعيه نفسه، عبر بالمفعال فقال: {الميعاد} لأنه لا سبب أصلاً يحمله على الإخلاف.
ولما أخبر سبحانه بقدرته على البعث، دل عليها بما يتكرر مشاهدته من مثلها، وخص المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخطاب حثاً على تأمل هذا الدليل تنبيهاً على عظمته فقال مقدراً: {ألم تر} أي مما يدلك على قدرته سبحانه على إعادة ما اضمحل وتمزق، وأرفت وتفرق: {أن الله} أي الذي له كل صفة كمال {أنزل من السماء} أي التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهره على ذلك {ماء} كما تشاهدونه في كل عام {فسلكه} أي في خلال التراب حال كونه {ينابيع} أي عيوناً فائرة {في الأرض} فقهره على الصعود بعد أن غيبه في أعماقها بالفيض والصوب بعد أن كان قسره على الانضباط في العلو ثم أكرهه على النزول على مقدار معلوم وكيفية مدبرة وأمر مقسوم، قال الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض من السماء ينزل إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا.
ولما كان إخراج النبات متراخياً عن نزول المطر، عبر بثم، وفيها أيضاً تنبيه على تعظيم الأمر فيما تلاها بأنه محل الشاهد فقال: {ثم يخرج} أي والله {به} أي الماء {زرعاً} ولما كان اختلاف المسبب مع اتحاد السبب أعجب في الصنعة وأدل على بديع القدرة، قال: {مختلفاً ألوانه} أي في الأصناف والكيفيات والطبائع والطعوم وغير ذلك مع اتحاد الماء الذي جمعه من أعماق الأرض بعد أن تفتت فيها وصار تراباً.
ولما كان الإيقاف بعد قوة الإشراف دالاً على القهر ونفوذ الأمر، قال إشارة إلى أن الخروج عن الحد غير محمود في شيء من الأشياء فإنه يعود عليه النقص {ثم يهيج} وزاد في تعظيم هذا المعنى للحث على تدبره بإسناده إلى خير الخلق صلى الله عليه وسلم فقال: {فتراه} أي فيتسبب عن هيجه وهو شدة ثورانه في نموه بعد التمام بتوقيع الانصرام أنك تراه {مصفراً} آخذاً في الجفاف بعد تلك الزهرة والبهجة والنضرة. ولما كان السياق لإظهار القدرة التامة، عبر بالجعل مسنداً إليه سبحانه بخلاف آية الحديد التي عبر فيها بالكون لأن السياق ثَم لأن الدنيا عدم فقال: {ثم يجعله حطاماً} أي مكسراً مفتتاً بالياً.
ولما تم هذا المنوال البديع الدال بلا شك لكل من رآه على أن فاعله قادر على الإعادة لما يريد بعد الإبادة، كما قدر على الإيجاد من العدم والإفادة لكل ما لم يكن، قال على سبيل التأكيد للتنبيه على أن إنكارهم غاية في الحمق والجمود: {إن في ذلك} أي التدبير على هذا الوجه {لذكرى} أي تذكيراً عظيماً واضحاً على البعث وما يكون بعده، فإن النبات كالإنسان سواء، يكون ماء، ثم ينعقد بشراً، ثم يخرج طفلاً، ثم يكون شاباً، ثم يكون كهلاً، ثم شيخاً ثم هرماً، ثم تراباً مفتتاً في الأرض، ثم يجمعه فيخرجه كما أخرج الماء النبات: {لأولي الألباب} أي العقول الصافية جداً كما نبه عليه بخصوص الخطاب في أول هذا الباب للمنزل عليه هذا الكتاب، وأما غيره وغير من تبعه بإحسان فهم كبهائم الحيوان.
ولما كان الذي قرر به أمراً فيما يظنه السامع ظاهراً كما كان جديراً بأن ينكر بعض الواقفين مع الظواهر تخصيص الألباء به، سبب عن ذلك الإنكار في قوله: {أفمن شرح الله} أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل {صدره للإسلام} أي للانقياد للدليل، فكان قلبه ليناً فانقاد للإيمان فاهتدى لباطن هذا الدليل {فهو} أي فيتسبب عن إسلام ظاهره وباطنه للداعي أن كان {على نور} أي بيان عظيم بكتاب، به يأخذ، وبه يعطي، وإليه في كل أمر ينتهي قد استعلى عليه فهو كأنه راكبه، يصرفه حيث يشاء، وزاد في بيان عظيم هدايته بلفت القول إلى مظهر الإحسان فقال: {من ربه} أي المحسن إليه إحسانه في انقياده، فبشرى له فهو على صراط مستقيم، كمن جعل صدره ضيقاً حرجاً فكان قلبه قاسياً، فكان في الظلام خابطاً، فويل له- هكذا كان الأصل ولكن قيل: {فويل للقاسية قلوبهم} أي لضيق صدورهم، وزاد في بيان ما بلاهم به من عظيم القسوة بلفت القول إلى الاسم الدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى فقال: {من ذكر الله} فإن من تبتدئ قسوته مما تطمئن به القلوب وتلين له الجلود، من مدح الجامع لصفات الكمال فهو أقسى من الجلمود.
ولما كان من رسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة أنتج وصفه قوله تعالى: {أولئك} أي الأباعد الأباغض {في ضلال مبين} أي واضح في نفسه موضح أمره لكل أحد، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الشرح والنور دليلاً على حذف ضده ثانياً، وثانياً الويل للقاسي والضلال دليلاً على حذف ضده أولاً- روى البيهقي في الشعب والبغوي من طريق الثعلبي والحكيم الترمذي من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، قال: فقلنا: يا رسول الله! كيف انشراح صدورهم؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا: يا رسول الله؟ فما علاقة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: والنور الذي من قبله سبحانه نور اللوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، فعند ذلك لا وجد ولا قصد، ولا قرب ولا بعد، كلا بل هو الله الواحد القهار، وذلك كما قيل: المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعلمه إلى أن يبدو ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته، ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب.
ولما كان من المستبعد جداً أن يقسو قلب من ذكر الله، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى، فقال مفخماً للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه: {الله} أي الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال {نزّل} أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة {أحسن الحديث} وأعظم الذكر، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن، ولقدر- ولو يوماً واحداً- على الإتيان بشيء من مثله، وأبدل من {أحسن} قوله: {كتاباً} أي جامعاً لكل خير {متشابهاً} أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة، لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أو لا، والاختلاف في المختلف في الزمان أكثر، ولم يقل: مشتبهاً، لئلا يظن أنه كله غير واضح الدلالة لا يمدح به.
ولما كان مفصلاً إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله: {مثاني} جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى، ولا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده: المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم والشقاء والضلال والهدى، والسراء والضراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحاً إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحاً، فكان مذكوراً مرتين، ومرغباً فيه أو مرهباً منه كرتين، ويجوز أن يكون التقدير: متشابهة مثانيه، فيكون نصبه على التمييز، وفائدة التكرير أن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً على بدء لم يرسخ عندها ولم يعمل عمله، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر قوله ثلاث مرات فأكثر.
ولما كان التكرار يمل، ذكر أن من خصائص هذا الكتاب أنه يطرب مع التكرار، ويزداد حلاوة ولو ثنى آناء الليل وأطراف النهار، فقال: {تقشعر} أي تهتز وتتجمع وتتقبض تقبضاً شديداً، من القشع وهو الأديم اليابس، وزيد حرفاً لزيادة المعنى، واختير حرف التكرير إشارة إلى المبالغة فيه، وكونه حرف التطوير أشد للمناسبة {منه جلود} أي ظواهر أجسام {الذين يخشون} أي يخافون خوفاً شديداً ويلتذون لذة توجب إجلالاً وهيبة، فيكون ذلك سبب ذلك، وزاد في مدحهم بأنهم يخافون المحسن، فهم عند ذكر أوصاف الجلال أشد خوفاً، فلذلك لفت القول إلى وصف الإحسان فقال: {ربهم} أي المربي لهم والمحسن إليهم لاهتزاز قلوبهم، روى الطبراني عن العباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه»، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر برجل من أهل العراق ساقط، قال: فما بال هذا؟ قال: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط، قال ابن عمر رضي الله عنهما: إنا لنخشى الله وما نسقط وإن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، {ثم تلين} أي تمتد وتنعم، وقدم ما صرح فيه بالاقشعرار الذي يلزمه اليبس، وأخر القلوب إبعاداً لها عما قد يفهم يبساً فيوهم قسوة فقال: {جلودهم} لتراجعهم بعد برهة إلى الرجاء وإن اشتدت صلابتها {وقلوبهم} وذكره لتجدد لين القلوب مع الجلود دال على تقدير اقشعرارها معها من شدة الخشية فإن الخشية لا تكون إلا في القلب، وكان سر حذف التصريح بذلك تنزيههاً عن ذكر ما قد يفهم القسوة.
ولما كان القلب شديد الاضطراب والتقلب، دل على حفظه له بنافذ أمره وباهر عظمته بالتعدية ب {إلى} ليكون المعنى: ساكنة مطمئنة {إلى ذكر الله} أي ذي الجلال والإكرام، فإن الأصل في ذكره الرجاء لأن رحمته سبقت غضبه، وأظهر موضع الإضمار لأحسن الحديث لئلا يوهم أن الضمير للرب، فيكون شبهة لأهل الاتحاد أو غيرهم من أرباب البدع، ولم يقل: إلى الحديث أو الكتاب- مثلاً، بل عدل إلى ما عرف أنه ذكره سبحانه ليكون أفخم لشأنه، وزاده فخامة بصرف القول عن الوصف المقتضي للإحسان إلى الاسم الجامع للجلال والإكرام.
ولما كان ما ذكر من الآثار عجباً، دل على عظمته بقوله على طريق الاستنتاج: {ذلك} أي الأمر العظيم الغريب من الحديث المنزل والقبض والبسط {هدى الله} أي الذي لا يتمنع عليه شيء {يهدي به من يشاء} ومن هداه الله فما له من مضل، ويضل به من يشاء فلا تتأثر جلودهم لقساوة قلوبهم، فيكون هدى لناس ضلالاً لآخرين {ومن يضلل الله} أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء إضلالاً راسخاً في قلبه بما أشعر به الفك ليخرج الضلال العارض {فما له من هاد} لأنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، لأنه الواحد في ملكه، فلا شريك له، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً إطلاق أمره في الهداية دليلاً على حذف مثله في الضلال، وثانياً انسداد باب الهداية على من أضله دليلاً على وحذف مثله فيمن هداه وهي دامغة للقدرية.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7